صحيحٌ أن الكثير من هذه المدوَّنات هي لأبناء قيادات الجماعة والمُحَالين للمحكمة العسكرية، مثل مدونات: حر رغم القيود (عائلة المهندس خيرت الشاطر)، الحرية لحسن مالك، محاكمة قلم (الصحفي أحمد عز الدين)، هأعيش واتحدى أحزاني (أسماء عصام العريان)، الفجرية (أسماء ياسر عبده)، وهي إحدى الطرق التي لجأ إليها هؤلاء الأبناء للتعبير عما يدور في دواخل نفوسهم، وما يتعرض له آباؤهم من ظلم وجَوْر، على الأقل من وجهة نظرهم، وإثبات أن أبناء وبنات الإخوان هم أشخاص عاديون، يصيبهم ما يصيب أي شخص في المجتمع، من أحزان وأفراح، ولهم ذكريات، وليسوا- كما يتصورهم البعض- أناسًا من كوكب آخر!!
إلا أن ظاهرة التدوين لشباب الإخوان قد خاض غمارها شبابٌ ليسوا من أبناء القيادات بالضرورة، بل هم أنفسهم كانوا لا يزالون من قيادات طلاب الإخوان مثلاً (مثل مدونات "يلا مش مهم" مجدي سعد، "ومضات" أحمد الجعلي)، أو مجرد شباب من الإخوان (هم كُثُر)، وتَعَدَّى الأمر ذلك إلى أن خاض التجربة بعض القيادات، وأنشأوا مدوناتٍ خاصة بهم: (مثل مدونات "غربة" د. أحمد عبد العاطي المُحال للعسكرية ولكن بالخارج، "ذاكرة الدكتور إبراهيم الزعفراني "مدونة الأستاذ جمال ماضي").
النقد الذاتي وإجراءات الجماعة تجاهه
ولكن أكثر ما نالَ زَخَمًا إعلاميًّا هو تعرُّض هؤلاء الشباب لما يسميه البعض "النقد الذاتي"، وهو ما يعني مناقشاتهم لبعض قرارات الجماعة أو اختياراتها، أو تصريحات قياداتها، وانتقاد بعض ما يتم في أطرها التنظيمية الداخلية من عدم استماعٍ كافٍ للآراء أو عدم المناقشة الجادَّة، على حدِّ زعم الناقدين.
وقد كان انتقاد الشباب للقراءة الأولى لبرنامج الحزب السياسي للجماعة أحد أهم وأبرز ما نوقِشَ داخل مدوناتهم، وكل هذه المناقشات والأحداث قد استقبلتها الجماعة- فيما يبدو لكل مراقب محايد- بصَدرٍ رَحِب، ولم تُصدِرْ أية أوامر بتعزير أي أخ، أو إغلاقِ مدونته، أو مسحِ شيء أو تغييرِ رأي تمت كتابته، وإن قال قائل: ذلك لأنها لا تملك ذلك، قلنا ولكنها كانت تملك أيضًا أن تجمِّد عضوية بعضهم، أو تفصله من التنظيم، أو حتى توجِّه له لَوْمًا، ولكنَّ شيئًا من ذلك لم يحدث أيضًا؛ مما يدل على أن منهج الجماعة في التعامل مع النقد هو مناقشته ومواجهته ومقارعة الحجة بالحجة ابتغاءً للحق، من أي شخص جاء، صغيرًا أو كبيرًاً.
بل تم نشْر بعض مقالات هؤلاء الشباب، المخالفة لرأي بعض القيادات على الموقع الرسمي للجماعة!! (مقال إبراهيم الهضيبي بعنوان "الإسلام مرجعيتنا جميعًا" الذي ردَّ فيه على مقال المهندس علي عبد الفتاح والذي كان عنوانه "الإسلام مرجعيتنا"- إخوان أون لاين).
وعَقَدَت بعض المكاتب الإدارية للإخوان لقاءات عدة مع بعض مدوِّني الإخوان، منها مثلاً لقاء قيادي المكتب الإداري للإخوان بالشرقية في الفترة الأخيرة، والذي تم فيه تشجيعهم على الاستمرار، بل ومكتب الإرشاد نفسه، حرص أن يسمع من الشباب عن قرب، وذلك بإفادة الأستاذ الدكتور محمد مرسي- عضو المكتب ومشرف القسم السياسي بالجماعة- للحديث مع شباب الإخوان المدوِّنين، وهو اللقاء الذي تكرر أكثر من مرة، ووصل أكثر من نبأ عن كونِهِ لقاءً مثمراً فعَّالاً وموضحًا للعديد من الأمور التي كانت غائبة.
وكما سَمِعَ الشباب من الدكتور مرسي، فقد سَمِعَ هو منهم أيضًا، وتَلاقَت بعض أوجه النظر، هذا فضلاً بالطبع عما يدور في الأطر الداخلية للجماعة، من نقاشات وحوارات حول هذا الموضوع، وأعلنت الجماعة أن بابها كان ولا يزال وسيظل مفتوحًا لكل الإخوان، مَن كان منهم مُعاتِبًا أو صَاحِبَ رأيٍ أو اقتراح أو مُرِيدًا للإيضاح والاستفسار.
الدعوة للميثاق وطبيعته
المعظم بالطبع يعتبر التدوين هو أحد وسائل التعبير عن النفس على طبيعتها، وهو بطبيعته شخصيٌ وسَلِسٌ ولا يجب أن تُوضَع له أية قيود، وأنا شخصيًّا أتفق مع هذا المعظم في هذا الرأي، ولا أتفق في وضع قيود على أي موضوع، ولا أعتبر "الميثاق" الذي أدعو إليه- وسبقني إلى الدعوة إليه بعض أساتذتي- بمثابة القيد، وإنما هو عبارة عن مجموعة من الالتزامات المعنوية والأخلاقية التي لا تتعلق بفرض قَيْدٍ على الموضوعات التي يتم طرحها، أو وجهات النظر، ولا تتعلق برفض نقد القيادة أو توجهات الجماعة أو ما إلى ذلك.
والبعض أيضًا يرى أن ما قد نطلبه من نقاطٍ في "الميثاق" هي ضد طبيعة التدوين؛ حيث يخرج الكلام مباشرةًً سريعًا منسابًا، دون تنميقٍ ولا تدقيق، ولكن لماذا لا نحاول أن يكون ما ينساب من داخلنا متوافقًا على الدوام مع هذا الميثاق، حتى وإن خرج سريعًا أو نتيجة موقف يستوجب سرعة التعليق وإبداء الرأي.
وهذا "الميثاق" ليس بدعةً، فهناك ما يُسَمَّى بـ"ميثاق الشرف الصحفي" وقد تحدث عنه الكثير من شيوخ هذه المهنة العظيمة (السلطة الرابعة)، وهناك ما يُعرَف في المجتمعات بـ"العُرْف" وهو مجموعةٌ من الالتزامات التي تنتقل بين مجتمعٍ ما بالتواتر والاعتياد وتُلاقي احترامًا بين أهل هذه المجتمعات، وهذا العُرف ارتقى إلى أن احترمه الشرع الإسلامي الحنيف.
وحين نستعرض بعض الملامح الرئيسية "المقترحة" لميثاقٍ لمدوِّني الإخوان، فنحن لا ندَّعي في ذلك عدم مراعاتهم لها تمامًا، ولا نطلب مصادرةً للرأي أو حرية التعبير، ولكنها بعض الملامح للتَذْكِرَة؛ مصداقًا لقول المولى عز وجل: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكرَى تَنفَعُ المُؤْمِنين) (الذاريات: 56) والتعاون على تقويم النشاط تحقيقًا للتوازن الذي دعا إليه الدكتور أحمد عبد العاطي بين تشجيع حرية التعبير عن الرأي ولو خالف رأي الجماعة والإبداع والتطوير من ناحية، وبين الحفاظ على أخلاق الإسلام ووحدة صف الجماعة من ناحية أخرى.
الملامح المقترحة للميثاق
هذه هي بعض النقاط "المقترحة" في هذا الصدد:
1- استحضار النية في كل مَقَالٍ ورأيٍ يُكتَب، حتى لو كان ذلك مجرد "فضفضة" شخصية، والحرص على سؤال النفس: هل ذكْر ذلك القول سيُرضي الله؟ وهل ذكْر ذلك سيزيد من ميزان الحسنات أو على الأقل لن ينقص منه أو يزيد في ميزان السيئات؟! وهذا أصلٌ في كل أعمالنا.
2- تنقية الكلمات وأسلوب التعبير قدر المستطاع؛ بحيث تصل الفكرة ولكن دون جَرح أحد أو شخص، حتى لو تم الاختلاف معه، ومحاولة التماس العذر عند الاختلاف، مع الاستمرار في ذِكر وجهة النظر المخالفة، ونتذكَّر تحذير إمامنا الشهيد حسن البنا من تجريح الهيئات والأشخاص، ولا يفوتني هنا تسجيلُ إعجابي الشديد بمقال أخي إبراهيم الهضيبي، الذي ذكرتُهُ آنِفًا؛ حيث أراه خيرَ تمثيلٍ لهذا الأسلوب.
3- احترام أوجه النظر المختلفة؛ إعمالاً لكلمة الأستاذ البنا: "نتفق فيما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، وللحكمة القائلة: "اختلاف الرأي لا يفسد للودِّ قضية"، ولحكمة الإمام الشافعي: "رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب"، ويجب أن نربِّي أنفسنا ونعوِّدها على احترام الرأي الآخر حتى لو اختلفنا معه.
4- إذا تم الخَوْض في شأنٍ من شئون الجماعة أو تصريحات أحد قياداتها، فيجب الرجوع للمصدر الذي نُقِلَ عنه هذا التصريح، والتأكد منه، أو الرجوع للتصريح نفسه، وإن كان قد تم نفيه أو تعديله أم لا في المكان الذي ذُكِرَ فيه، سواءٌ كان موقعًا إلكترونيًّا، أو جريدة ورقية، أو حوارًا تليفزيونيًّا.. إلخ، ويجب تغليب روح الأخوَّة وحُسن الظن، ولا يجب الاتهام ابتداءً؛ فالأصل أننا لا نقدح في نية أخ أو أخت، ولكن قد نختلف معه في طريقة تناوله للموضوع أو في رأيٍ معين قاله في أسلوب ووقت ما صرَّح به.. إلخ.
5- التَخَلُّقُ بخلقنا الإسلامي الرفيع في تعليقاتنا وفي مقالاتنا، من إعطاء العذر للذين يختلفون معنا في الرأي، وذِكْر الألقاب المناسبة لمَن يكبرونا سنًّا، وتغليب روح "الاجتهاد في الوصول للحق" عن روح "محاولة الانتصار للرأي"، والبُعد عن السبِّ والجرح وردِّ السيئة بالحسنة والكلمة الخبيثة، بطلب العفو من الله لمن قالها، وعدم الجَهْر بالمعصية، وجَعْل رضا الله هو الغاية الأسمى من كل ما نقول ونقترح.. إلخ.
6- أَخْذ الحَيْطَة في الانجراف خلف التعليقات المستفيضة من الأخ للأخت وبالعكس؛ بحيث لا يتم استخدام كلمات استلطافية أو مِزاحية؛ لأن ذلك يعمل عمله في النفوس ويفتح بابًا من أبواب الشيطان، وَلْيجتهد الأخ في أن يكون تعليقه للأخت على قدر المُحتاج وبالعكس، حتى وإن كان في تعليقٍ على تدوينة شخصية تتعلق بمشاعر أو خواطر، فلا مانع، فكلٌ حرٌّ فيما يكتب كما ذكرنا، ولكن حبَّذا لو اكتفى كلٌّ منهما بإسداء النصح والدعاء والتذكرة في هذه الحالة، وَلْيحرص كلا الجنسين على تذكُّر أن الآخر أجنبيٌّ، وكيف كان سيعامله في أرض الواقع.
7- ذِكْر مصادر الأخبار والمقالات المنقولة من أماكنَ أخرى، مع وَضْع رابطٍ لذلك إن أمكن؛ حيث إن ذلك من الأمانة في النقل، ونَسب الجُهدِ لصاحبه (وهو غالبًا ما أراه بالفعل في كل مدوّنات الإخوان والأخوات بفضل الله).
8- محاولة اقتراح حلول للمشكلات بجانب عرضها، حتى يكون العرض عمليًّا، فكما تقول الحكمة: "أشعِل شمعة بدلاً من أن تظل تلعن الظلام"، ومحاولة الخروج من نفق الجَدَل البيزنطي؛ لأن الإخوان مجتمعٌ بشريٌ، يصيبه ما يصيب أي مجتمع، ولكن لا يجب أن نيأس من الإصلاح والتطوير، وكما قال الإمام البنا: "نحن قوم عمليون".
9- يجب أن يضع كل أخ وتضع كل أخت في الحسبان- شِئنَا أم أَبَيْنا- أنّ أفراد الجماعة هم عنوان الجماعة، فَلْيَحرص الكل على محاولة أن يكون خير عنوان، وذلك في كتاباته وتعليقاته، فضلاً عن سلوكه الواقعي أيضًاً.
10- مشاركة الأخ أو الأخت الأفراح والأحزان في التدوينات الشخصية، مع مراعاة الأسلوب الذي بيَّنَّاه سابقًا؛ فإنه كثيرًا ما يحتاج الأخ/ الأخت لكلمات الإخوة والأخوات التي تثبت وتهون أو تزين الأفراح.
11- محاولة متابعة الردود على كل تدوينة، وإعادة الرد عليها؛ حيث إن مَن رَدَّ ينتظر غالبًا رَدًّا ثانيًا من صاحب التدوينة الأصلية؛ ليشعره بأهمية مشاركته وتفاعله مع تدوينته ومدونته.
12- محاولة الانفتاح على مدوّنات غير الإخوان، والتواصل معها، وقليلٌ مَن يفعل ذلك من الإخوة والأخوات، وتَحَوَّل المجتمع التدويني الإخواني لمجتمع مغلق تقريبًا، على الرغم من أنه يجب أن تُستَخدم هذه الوسيلة في الدعوة إلى الله، وتبيين ما يغيب من حقائق عن الجماعة وفكرها ومنهجها وأسلوب عملها، وإظهار تلبيس الإعلام في بعض الأحيان.
13- محاولة توصيل الكتابات والآراء للقيادات قدر المستطاع، فليس الكل منهم يملك الوقت للدخول لهذا الكم الضخم من المدونات الالكترونية ليُطالِعَها، ومراسلة كل ذي شأنٍ عن الشأن الذي يخصه؛ حتى يتسع الحوار بين القيادة والصف، ومن الحوار- وبعد توفيق الله- يأتي القرار السليم بإذن الله.
همسة في أذن إخواني وأخواتي
"إن جماعة الإخوان المسلمين هي مِلكُ كل أبنائها، بل هي جزءٌ من تاريخ وحياة المصريين لا تقبل ثقافة القطيع، بل تشجع أبنائَها على حرية الرأي والتعبير في كل أدبياتها؛ لأن الأحرار فقط هم من يستطيعون مواجهة الظلم والفساد والاستبداد، ولا يستخدمون الدين لتحقيق مصالحَ خاصة بها، بل تُوَظِّفُ كلَ كفاءاتِها وجهاد أبنائها لتُعِزَّ الإسلام، وتُعْلِي من شأن ِقيمه وشرائعه، وهي جماعة تجمع ولا تُفَرِّق، وتتحمَّل في سبيل ذلك المَشاق وسوءَ الظن والاتهامات ويَكفِي ما يُلاقيهِ الإخوان من عَنَتٍ وإجرام- حتى اليوم- لكي نُدرِكَ قيمةَ ورُجولةِ وشَهَامةِ كل مَنْ ُيقبِل ويُعلِنُ الانتسابَ إليها في ظل هذا المناخ! فَرِفْقًا بجماعتكم، وِثقوا في أن الحب والترابط الذي يجمع أفرادَها ممزوجٌ بالثقة والاحترام لَهُمَا، العاصم بعد توفيق اللهِ مِنَ المِحَنِ والفِتَنِ، أَعَاذَنا اللهُ منهما وآخرُ دَعْوانا أَنِ الحمد لله رب العالمين".
والله أكبر.. ولله الحمد.