الاثنين، ٩ أبريل ٢٠٠٧

الحرية المسئولة

الحرية من المسائل التي يَكثُرُ الحديث عنها وخاصة بين النُخَب؛ الثقافية منها والسياسية على حدٍ سواء. وقد بدأ هذا الحديث ينشط ويزداد بعد الانتصارات التي حققتها الحركات الإسلامية في الانتخابات (وبخاصة في مصر وفلسطين)، حيث يزعم بعض هذه النخب أن هذه الحركات ستتخذ إجراءاتٍ من شأنها الحد من حرية التعبير والفن والثقافة، لتعيدَنا إلى زمن البادية، بينما نحن في زمن الفضائيات والاتصالات المفتوحة التي جعلت من العالم قرية صغيرة.
وتختلف هذه النخب على مفهوم الحرية، فمنهم من يراها الحرية الكاملة، دون قيد أو شرط، سواء حرية ثقافية أو أدبية أو نقدية أو فكرية أو فنية أو سياسية.
فهؤلاء مثلاً، لا مانع عندهم من نقد الذات الإلهية أو نقد الأنبياء والمرسلين أو الصحابة في أي عملٍ سواء ثقافي أو أدبي أو فني، بزعم أن ذلك من حرية الرأي. ولا مانع عندهم أيضاً من رسم الفتيات عاريات، بزعم أن ذلك مثله مثل علم التشريح! لأن جسد المرأة – كما يقول بعضهم – هو أفضل مثال على تناسب الأبعاد بين الأشكال المختلفة (دائرية ومستقيمة...إلخ) في شكل جمالي واقعي!!
ولا مانع أيضاً من تمثيل المشاهد الجنسية الصريحة، وخلع الملابس كاملة أمام الكاميرات، بزعم الواقعية في الحدث، وأن الفن هو الذي يغوص في أعماق النفس ورغباتها ويتلاحم مع أشخاص المجتمع وينقل الصورة الواقعية لهذه الرغبات وتلك الأشخاص! ولذلك نادَى هذا البعض بإلغاء الرقابة على المصنفات والأعمال الفنية بمختلف أشكالها وأنواعها، وينادون أيضاً بإلغاء أي رقابة لأي مؤسسة أخرى مثل رقابة الأزهر مثلاً على الأعمال التي تتعرض لشخصيات أو أحداث دينية، وكل ذلك مرجعه عندهم حرية الرأي والتعبير!
والغريب أن تجدَ بعض هؤلاء الذين ينادون بالحرية، لا يؤمنون بها للذين يختلفون معهم في الرؤية، وهذا فريق ثانٍ، مفهومه للحرية أنها حرية مشروطة، أي أن الحرية مكفولة لكل الناس في كل شيء ولكن بشرط ألا تتصادم مع رؤيتهم ولاتخالفها! وأيُّ اختلافٍ في الرأي هذا الذي يشترط الاتفاق؟! وياليتها كانت حرية مشروطة، ولكن بشروط ترضاها الأغلبية من المجتمع، أو بشروط من شأنها تحقيق السلام الاجتماعي.
فتجدهم مثلاً ينكرون على المرأة المحجبة محاولتها للاشتغال بالتليفزيون أو الإذاعة أو السياحة، وكأن الأصل أن يَفرِضَ هذا النوع من العمل لِبَاساً مُعَيَّناً على من يعمل فيه! والمفروض أن حرية الملبس – المطلقة من وجهة نظرهم – مكفولة للجميع، وأن معيار العمل من عدمِهِ هو الكفاءة.
وتجدهم أيضاً ينادون بحرية التعبير، وإذا عبَّرَ أحدُ مخالفيهم عن وجهَةِ َنظَرِهِ اتهموه بنشر الفكر الظلامي أو المتطرف، وطالَبوا بوقفه ومحاربته ومنعه من نشر فكره!
وفي فعلتهم هذه حَذَوْا حَذْو الإدارة الأمريكية، التي تتشدق بمناداتها بالحرية والديمقراطية والانتخابات النزيهة ومنع الاعتقالات السياسية لأصحاب الرأي من معارضي أي نظام في كل مكان ولكل شعب؛ وعندما عَلَّقَت على اعتقالات النظام المصري للإخوان المسلمين قالت: "نحن نقدر ما فعله النظام تجاه حركة الإخوان"، وكذا كان رد فعلها عندما أفرزت الانتخابات التشريعية الفلسطينية فوز حركة حماس – الإخوان المسلمون بفلسطين أيضاً – وتشكيلها للحكومة، فسعت لمحاصرتِها والشعبِ الفلسطينيِّ جزاءً له على اختياره الحر الذي شهد بنزاهته الجميع حتى حركة (فتح).
إن مفهوم الحرية الذي ننادي به إنما هو (الحرية المسئولة) وهي ببساطة أن الإنسانَ حرٌ مادامت هذه الحرية لم تؤذِ الآخرين، أو بمعنى آخر أنه يتحمل مسئولية الحفاظ على شعور الآخرين، وآرائهم ومعتقداتهم واحترامها حين يمارس حريته. وذلك بالطبع قد يعتبره البعض شرطاً أو قيداً على الحرية، إلا أننا إذا وافقنا على هذا الاعتبار، فإننا نقول أنه قيد أو شرط من شأنه الحفاظ على السلام الاجتماعي وتحقيق التعايش السلمي في المجتمع الواحد بين الآراء المختلفة والمدارس الفكرية المتباينة، وهذا التعايش هو الذي يجعل هناك وُداً بين المتخالفين، لذلك فإنه قديماً قيل: "الخلاف في الرأي، لا يفسد للوُد قضية".
وفي أهم قضية في الإسلام وهي الإيمان والكفر، يقول الحق سبحانه وتعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ في الأَرضِ كُلُهُم جَميعاً، أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكونُوا مُؤمِنين" (يونس 99)، ويقول سبحانه أيضاً: "لا إِكْرَاهَ في الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ، فَمَن يَكْفُرْ بِالطَاغُوتِ وَيُؤْمِنُ بِاللهِ فَقَد اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَاَم لَهَا وَاللهُ سَميعٌ عَليم" (البقرة 256).
وقد أقر الإسلام بالاختلاف وعَلَّمنا أن ذلك من سُنَنِ الحياة، فيقول الحق سبحانه: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاِحدَةً وَلايَزَالونَ مُخْتَلِفين" (هود 118).
إذن اختلاف الآراء ووجهات النظر من سنن هذه الحياة، وقد أقرت به الشرائع السماوية، والأبعد من ذلك أن الإسلام أقر حرية العقيدة والعبادة – بعد بيان الجزاء – وترك لكل إنسان بعد ذلك أن يختار طريقه طبقاً لقناعته.
وإذا طالبنا بهذه الحرية المسئولة، فإن ذلك منطقيٌّ، لأن ذلك أصلاً هو هدف القوانين والتشريعات، فإن الأصل أن الإنسان حر في ممارسة أي نشاط، مادام لا يخالف قانون هذا النشاط والقوانين المؤثرة عليه والمترتبة على مزاولته مثل هذا النشاط، وإلا تحول المجتمع إلى غابة، بزعم أن كل إنسان حر في تصرفاته، حرية مطلقة غير محدودة ولا مشروطة.
فالدعوة إلى احترام المعتقدات، وعدم تجريح الأشخاص والهيئات مهما اختُلِفَ معها في الرأي، واحترام العادات والتقاليد، واحترام الخصوصية الثقافية لكل مجتمع، ليست أبداً ضد الحرية، ولكنها إطار المسئولية الذي يحتم على كل شخصٍ أن يكون مسئولاً عن عدم إثارة أي فتنة أو ضغينة أو مشاكل حال عرضه لوجهة نظره – بأي أسلوب أو طريقة – مما يحقق التقدم الحقيقي للمجتمع لأن اختلاف الرأي في هذه الحالة لا يؤدي إلى النزاع ولكن يؤدي إلى إثراء الحياة الثقافية والسياسية والاجتماعية، وإعلاء قيمة احترام الآخَر.
يقول الله عزوجل: "ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِاْلِحْكمَةِ والْمَوْعِظَةِ الحَسَنَة وَجادِلْهُم بِاَّلتي هِيَ أَحْسَن إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدين" (النحل 125).

ليست هناك تعليقات: