السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
منذ انتهاء الانتخابات النيابية المصرية الماضية (2005) والتساؤلات والتكهنات لاتنتهي حول موقف الإخوان من القضايا المختلفة التي زُرِعَ في فكر المجتمع أنها محرَّمة ومُجرَّمة من قِبَل الفكر الإسلامي بكل أنواعها وعلى اختلاف أشكالها وأهدافها، مثل الفن والثقافة وحرية الإبداع، وموقفهم من المرأة والأقباط...إلخ.
وقد انتقل النخبة والمراقبون والمحللون من احتمالات صعود تيار الإخوان المسلمين السياسي، أو حتى مجرد اشتراكهم في صنع القرار، أو احتمال مشاركتهم في حكومة ائتلافية – بغض النظر عن قبول الحزب الحاكم بذلك من عدمه – إلى تحليل الأوضاع حال وصول الإخوان إلى الحكم، أي أن وجود الإخوان وتأثيرهم القوي واعتبارهم القوة الرئيسية المنافسة للحزب الوطني أصبحت حقائق لاشك فيها ولا مناقشة حولها، وأصبح التفكير في وجود الإسلاميين في السلطة بديلاً مطروحاً للنقاش ولو حتى بالهجوم، وبعضهم اعتبره حقيقة لا هروب منها وأن كَوْنها واقعاً أصبح مسألة وقت ليس أكثر.
لذلك كان من المنطقي والطبيعي أن تثور ثائرة المعارضين و تكثر تساؤلاتهم بل واتهاماتهم للإخوان ولكل الإسلاميين، وكان من المنطقي أيضاً محاولة تضخيم الخوف من مجرد الصعود السياسي لهذا التيار، بعرض التخيلات والاحتمالات المتوقعة لكل التفاصيل الصغيرة المتعلقة بأمور الدولة والشأن الداخلي والخارجي لإثبات فشله في إدارة كافة الأمور بل وفي التعامل مع كافة الأطياف والأفكار والنشاطات في الدولة.
وللأسف الشديد، فإن من سلكوا هذا الدرب من النقد، لم يُثيروا – في معظمهم - قضايا أو تحديات رئيسية هامة في إدارة شئون الدولة، مثل كيفية التعامل مع الدَيْن الداخلي، أو كيفية علاج مشكلة البطالة، أو تطوير المشروعات القائمة من مصانع بماكينات مترهلة وبطالة مقنعة ورواتب ضئيلة، أو شركات استثمارية، أو إنعاش السوق التجاري، أو حتى تطوير المرافق الرئيسية والهيئات الحكومية، فضلاً عن مشاكل التعليم والإسكان والصحة والموازنة والشباب والرياضة...إلى غير ذلك من قضايا.
وإنما اكتفوا بطرح أسئلة عن تفاصيل بعيدة كل البعد عن هَمِّ المجتمع المصري في أغلبيته، مثل: "كيف سيتعامل الإخوان مع الراقصات؟"، "كيف سيتعاملوا مع صناعة السجائر والخمور واستيرادها وبيعها وتداولها؟"، "كيف سيتعاملوا مع الملاهي الليلية التي تحتوي على زنا مقنع، وهي باب رزق لكثير من البيوت؟!"، وهل تعاملاتهم ستُبقِي على نفس مستوى الدخل من السياحة؟ كيف...وكيف...وكيف؟؟
وكأنهم أرادوا إحراج الإخوان والمزايدة عليهم أو إثبات وقوعهم في مآزقَ عدة حال تفكيرهم في تولي مقاليد الأمور، ويطالبون الإخوان بإجابات شافية وافية آنية ومقنعة ومطمئنة لكل هذه التفاصيل، وكأنهم – أي الإخوان – هم من أنشأها وبالتالي وَجَبَ عليهم حل هذه المشكلات!! ولم نَرَ أحداً من هؤلاء تقدم ولو باقتراح واحد ليساعد الإخوان في الخروج من هذه المشكلات. وكأن المطلوب منا أن نقبل بالواقع الحالي بكل مساوئه أفضل من أن يأتي الإخوان فيُحَرِّموا كل هذه النشاطات، ولا ينبغي لنا أن نساعد الإخوان أبداً أو نراجعهم في إطار المصلحة، بل يجب أن نحاربهم ونُزايِد عليهم ونتهمهم على الدوام، حتى قبل أن نرى منهم واقعاً قد يُصَدِّق أو يُكَذِّب هذه الادعائات.
يجب أن نلفت النظر إلى أن الإخوان قد أعلنوا أكثر من مرة على ألسنة قادتهم أنهم لا يَسْعَوْنَ لحكم الدولة الآن، وأن ذلك لا يمكن أن يتم في ظل الظروف الحالية للشعب. وها قد أثبتوها بترشيحهم لعدد 20 مرشحاً لانتخابات الشورى وهو أقل من المطلوب للمنافسة على مقعد رئاسة الجمهورية من المستقلين، إذا تمت الانتخابات قبل موعدها عام 2011م إن شاء الله، والمقصود من ذلك: أن الإخوان يريدون وقتاً للإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة، ولكن ليس عبر المقالات ولقاءات الفضائيات فحسب، وإنما عبر الممارسات العملية الفعلية في وسط المجتمع، وذلك تأكيداً لمنهجهم الذي يعتمد على الإصلاح التحتي والمقصود به إصلاح المجتمع وإقناعه بمنهج الإسلام كنظام شامل يحكم كافة شئون الحياة، متنافساً مع غيره من الأنظمة وأساليب الإدارة من رأسمالية واشتراكية وعلمانية، كُلٌ يطرح نفسه بمنتهى الحرية للشعب، ثم يتم الاحتكام بعد ذلك إلى صناديق الاقتراع. وهذا الإقناع يحتاج للالتحام العملي والاجتماعي بقوى الشعب وجماهيره، لإثبات إمكانية تطبيق الإسلام في حل مشكلات المجتمع، على الأقل من وجهة نظر الإخوان، وكُلٌ له الحرية في أن يعارض أو يُعَدِّل أو يوافق.
الإخوان يريدون المصلحة لهم ولغيرهم، ولو أرادوا مصلحتهم فقط لانفصلوا عن بقية قوى المعارضة تماماً دون أدنى تنسيق، وكانوا قادرين بفعل وزنهم نسبة إلى وزن جميع القوى الأخرى، ولكنهم ناضلوا بمفردهم وهم القوة الوحيدة التي قدمت التضحيات في مظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي عام 2005م وتم اعتقال حوالي 3000 منهم، ورغم ذلك أَعلَنوا عقب فوزهم بعدد 88 من مقاعد مجلس الشعب على الفور أن ذلك مكسب للمعارضة كلها، وأنهم سيعملوا معها تحت القبة. وحتى القول بأن ذلك من باب الفرقعة الإعلامية وتصريحات الاستهلاك المحلي، فقد تم نفيه بعد أن تمت محاولات التنسيق بالفعل واللقاءات مع المعارضة بكافة أطيافها ومحاولة توحيد أجندة معينة للمعارضة كلها تحت القبة.
ورَفْضُ الإخوان للحكم الفجائي الآن أيضاً ليس هروباً من المسئولية، وإنما يتأتّى لأسباب شتى، أولها أن الإعلام قد شوّه صورة الإسلاميين وأسلوبهم بشكل مفرط، إلى جانب أنه سوّى بين المدارس الفكرية الإسلامية وجعلها كلها تصب في بوتقة واحدة وهي "العنف"، مما يحتاج إلى ممارساتٍ كما ذكرنا للرد على ذلك، وهي أفضل بكثير من الأقوال والبيانات – مع عدم إهمالها أيضاً – في توصيل الرد الحقيقي.
وثاني هذه الأسباب أن المجتمع في حد ذاته غير مؤهل الآن للانتقال الفجائي من نظام شمولي، في ظله تَرَبّى وتَعَوَّدَ الكثير من الناس على ممارسة البلطجة ودفع الرشوة والاعتماد على الوساطة والمحسوبية لأخذ الحق، بدلاً من اللجوء للقضاء مثلاً والاحتكام للقانون، إلى نظام جديد يَعِدُهُم باحترام القانون والقضاء على الفساد الإداري – بغض النظر عن كونه إسلامياً أو غير إسلامي – وذلك لأنه – أي المجتمع – وَصَلَ إلى درجة شديدة من اليأس والإحباط، مما يتطلب من رجالات الإصلاح بكافة توجهاتهم – وفي القلب منهم الإخوان المسلمون – العمل وسط المجتمع لإزالة هذا الشعور باليأس، والعمل على خَلْق فكرٍ تربوي جديد من شأنه بث روح الأمل والثقة في نفوس الشعب وبخاصة الأجيال القادمة في الإصلاح والتحول بالدولة إلى دولة الحرية والعدل والمساواة و المؤسسات واحترام الحقوق والقانون والقضاء.
وثالث هذه الأسباب، أن الإخوان يدركون نظراً لكل ما سبق من واقع ملموس، أن المجتمع الحالي يحتاج لإصلاح شديد، إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي، ويجب البداية بالإصلاح السياسي الذي يضمن بيئة حرة نقية تسمح بالتعددية وتضمن عدم استئثار أي تيار بالسلطة، وهم بذلك ينفوا إرادتهم للاستئثار بالسلطة، وهذا الإصلاح لن يتم إلا بتضافر الجهود وتكاتف كل المدارس الفكرية والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني – إسلامية وغير إسلامية – على الأقل في مناطق الاتفاق - وهي كثيرة - ويتفق عليها بالفعل معظم أحزاب المعارضة والقوى السياسية. ويظل الخلاف الفكري بين المدارس قائم ووارد في إطار من المناقشة البناءة والحوار الحر.
وإذا أردنا أن نجيب عما أسميته أنا "التساؤلات التفصيلية" مثل قضايا الراقصات والخمور والسياحة...وما إلى ذلك بعد أن نفترض جَدَلاً وصول الإخوان للسلطة، فيجب أن نوضح شيئاً هاماً، وهو أن الإخوان المسلمين لايريدون إحداث مصائب للمجتمع حال توليهم أي سلطة، فهم أهل دعوة لا يعادون المجتمع وهم جزء من هذا المجتمع ولا يعتبرون العاصي مجرماً بل يتمنون له الهداية ويحاولون الأخذ بيده للصلاح. وذلك فضلاً عن أنه خُلُقٌ من أخلاقِ الإسلام والدعاة، فهو شيءٌ منطقيٌ لأي قيادة جديدة تريد استرضاءَ جمهورها - على الرغم من أن ذلك الاسترضاء ليس هو المنطلق الوحيد والرئيسي الذي تتحرك منه الجماعة في تصرفاتها - وبالتالي فإن منهجها سيكون (إصلاح الأحوال) وليس (تدمير الأحوال) حتى وإن كانت مخالفة للشريعة!
وذلك ليس ابتداعاً من الجماعة وإنما هي روح التشريع الإسلامي السَمِح، وتحقيقاً لمبدأ التدرج، فقد تدرّج الشارع الحكيم في تحريم الخمر مثلاً. وبالتالي فإن كل هذه القضايا سيتم الإصلاح فيها جنباً إلى جنب مع الأمور الأساسية، ولكن تأتي بأولوية أقل. ولا ننسى أنه لو تم للإخوان ما يريدون من الالتحام بالمجتمع وتوضيح مبادئ الإسلام الوسطية التي غُيِّبَت وموقف هذا الدين العظيم – حسب فهمهم – من هذه القضايا والحكمة من هذه المواقف، ففي ذلك الوقت سيكون فكر الشعب بما فيه هذه الفئات التي يُسأَل عن كيفية التعامل معها أو إيجاد حل لها – من راقصات وتجار خمر...إلخ – قد تغير إلى حد ما، ورَأَى الصورة الإسلامية المطروحة لإدارة المجتمع، فليس من البعيد أن يقتنع بأن الإسلام سيجد له بديلاً شرعياً يحقق له حياة آمنة مستقرة.
وهناك العديد والعديد من الأفكار لحل هذه الإشكاليات، مثل عمل صندوق مدعّم من الدولة لإقامة مشروعات بديلة لأصحاب الملاهي بأقساط مريحة وبعد فترة تدريب وتأهيل، أو الإبقاء على نشاطهم الفني ولكن مع الترشيد بمنع العري والخمر، ويكون ذلك كله بعد منح مهلة زمنية لتوفيق الأحوال مثلاً، وعلى صاحب النشاط أن يختار ما يحلو له ويناسبه من حلول. ولتقرير ذلك أو غيره، فإن هناك مجلساً تشريعياً يحلم الإخوان بأن يكون مُمَثِّلاً عن الأمة بحق، ومُختاراً بإرادة شعبية حرة يقرر ما يرى فيه المصلحة، ويُجَرِّب وقد يصيب أو يخطأ، ويتعلم من خطأه، وتُرَشِّدُهُ في ذلك معارضةٌ وطنية همها مصلحة الوطن في المقام الأول وقبل كل شيء.
إذن من المؤكد أن الأولويات الآن أصبحت واضحة، فإصلاح النظام السياسي وإطلاق الحريات، و تفعيل منظمات المجتمع المدني، وتقوية ثقافة المجتمع والارتقاء بها من كافة نواحيها والعمل معه والانتشار بقيم الإسلام وفكر الإسلام تطبيقاً لا قولاً فقط، هي الأولويات التي يسعى الإخوان للعمل فيها الآن، ثم تمر السنون، وبعدها قد يتم التفكير في السلطة، والتي قد تكون بأناس على فكر الإخوان – أو قريب منه – وليسوا من الإخوان، أو خليط من هذا وذاك. ولكل حادثٍ حديث.
وقد انتقل النخبة والمراقبون والمحللون من احتمالات صعود تيار الإخوان المسلمين السياسي، أو حتى مجرد اشتراكهم في صنع القرار، أو احتمال مشاركتهم في حكومة ائتلافية – بغض النظر عن قبول الحزب الحاكم بذلك من عدمه – إلى تحليل الأوضاع حال وصول الإخوان إلى الحكم، أي أن وجود الإخوان وتأثيرهم القوي واعتبارهم القوة الرئيسية المنافسة للحزب الوطني أصبحت حقائق لاشك فيها ولا مناقشة حولها، وأصبح التفكير في وجود الإسلاميين في السلطة بديلاً مطروحاً للنقاش ولو حتى بالهجوم، وبعضهم اعتبره حقيقة لا هروب منها وأن كَوْنها واقعاً أصبح مسألة وقت ليس أكثر.
لذلك كان من المنطقي والطبيعي أن تثور ثائرة المعارضين و تكثر تساؤلاتهم بل واتهاماتهم للإخوان ولكل الإسلاميين، وكان من المنطقي أيضاً محاولة تضخيم الخوف من مجرد الصعود السياسي لهذا التيار، بعرض التخيلات والاحتمالات المتوقعة لكل التفاصيل الصغيرة المتعلقة بأمور الدولة والشأن الداخلي والخارجي لإثبات فشله في إدارة كافة الأمور بل وفي التعامل مع كافة الأطياف والأفكار والنشاطات في الدولة.
وللأسف الشديد، فإن من سلكوا هذا الدرب من النقد، لم يُثيروا – في معظمهم - قضايا أو تحديات رئيسية هامة في إدارة شئون الدولة، مثل كيفية التعامل مع الدَيْن الداخلي، أو كيفية علاج مشكلة البطالة، أو تطوير المشروعات القائمة من مصانع بماكينات مترهلة وبطالة مقنعة ورواتب ضئيلة، أو شركات استثمارية، أو إنعاش السوق التجاري، أو حتى تطوير المرافق الرئيسية والهيئات الحكومية، فضلاً عن مشاكل التعليم والإسكان والصحة والموازنة والشباب والرياضة...إلى غير ذلك من قضايا.
وإنما اكتفوا بطرح أسئلة عن تفاصيل بعيدة كل البعد عن هَمِّ المجتمع المصري في أغلبيته، مثل: "كيف سيتعامل الإخوان مع الراقصات؟"، "كيف سيتعاملوا مع صناعة السجائر والخمور واستيرادها وبيعها وتداولها؟"، "كيف سيتعاملوا مع الملاهي الليلية التي تحتوي على زنا مقنع، وهي باب رزق لكثير من البيوت؟!"، وهل تعاملاتهم ستُبقِي على نفس مستوى الدخل من السياحة؟ كيف...وكيف...وكيف؟؟
وكأنهم أرادوا إحراج الإخوان والمزايدة عليهم أو إثبات وقوعهم في مآزقَ عدة حال تفكيرهم في تولي مقاليد الأمور، ويطالبون الإخوان بإجابات شافية وافية آنية ومقنعة ومطمئنة لكل هذه التفاصيل، وكأنهم – أي الإخوان – هم من أنشأها وبالتالي وَجَبَ عليهم حل هذه المشكلات!! ولم نَرَ أحداً من هؤلاء تقدم ولو باقتراح واحد ليساعد الإخوان في الخروج من هذه المشكلات. وكأن المطلوب منا أن نقبل بالواقع الحالي بكل مساوئه أفضل من أن يأتي الإخوان فيُحَرِّموا كل هذه النشاطات، ولا ينبغي لنا أن نساعد الإخوان أبداً أو نراجعهم في إطار المصلحة، بل يجب أن نحاربهم ونُزايِد عليهم ونتهمهم على الدوام، حتى قبل أن نرى منهم واقعاً قد يُصَدِّق أو يُكَذِّب هذه الادعائات.
يجب أن نلفت النظر إلى أن الإخوان قد أعلنوا أكثر من مرة على ألسنة قادتهم أنهم لا يَسْعَوْنَ لحكم الدولة الآن، وأن ذلك لا يمكن أن يتم في ظل الظروف الحالية للشعب. وها قد أثبتوها بترشيحهم لعدد 20 مرشحاً لانتخابات الشورى وهو أقل من المطلوب للمنافسة على مقعد رئاسة الجمهورية من المستقلين، إذا تمت الانتخابات قبل موعدها عام 2011م إن شاء الله، والمقصود من ذلك: أن الإخوان يريدون وقتاً للإجابة عن هذه التساؤلات المطروحة، ولكن ليس عبر المقالات ولقاءات الفضائيات فحسب، وإنما عبر الممارسات العملية الفعلية في وسط المجتمع، وذلك تأكيداً لمنهجهم الذي يعتمد على الإصلاح التحتي والمقصود به إصلاح المجتمع وإقناعه بمنهج الإسلام كنظام شامل يحكم كافة شئون الحياة، متنافساً مع غيره من الأنظمة وأساليب الإدارة من رأسمالية واشتراكية وعلمانية، كُلٌ يطرح نفسه بمنتهى الحرية للشعب، ثم يتم الاحتكام بعد ذلك إلى صناديق الاقتراع. وهذا الإقناع يحتاج للالتحام العملي والاجتماعي بقوى الشعب وجماهيره، لإثبات إمكانية تطبيق الإسلام في حل مشكلات المجتمع، على الأقل من وجهة نظر الإخوان، وكُلٌ له الحرية في أن يعارض أو يُعَدِّل أو يوافق.
الإخوان يريدون المصلحة لهم ولغيرهم، ولو أرادوا مصلحتهم فقط لانفصلوا عن بقية قوى المعارضة تماماً دون أدنى تنسيق، وكانوا قادرين بفعل وزنهم نسبة إلى وزن جميع القوى الأخرى، ولكنهم ناضلوا بمفردهم وهم القوة الوحيدة التي قدمت التضحيات في مظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي عام 2005م وتم اعتقال حوالي 3000 منهم، ورغم ذلك أَعلَنوا عقب فوزهم بعدد 88 من مقاعد مجلس الشعب على الفور أن ذلك مكسب للمعارضة كلها، وأنهم سيعملوا معها تحت القبة. وحتى القول بأن ذلك من باب الفرقعة الإعلامية وتصريحات الاستهلاك المحلي، فقد تم نفيه بعد أن تمت محاولات التنسيق بالفعل واللقاءات مع المعارضة بكافة أطيافها ومحاولة توحيد أجندة معينة للمعارضة كلها تحت القبة.
ورَفْضُ الإخوان للحكم الفجائي الآن أيضاً ليس هروباً من المسئولية، وإنما يتأتّى لأسباب شتى، أولها أن الإعلام قد شوّه صورة الإسلاميين وأسلوبهم بشكل مفرط، إلى جانب أنه سوّى بين المدارس الفكرية الإسلامية وجعلها كلها تصب في بوتقة واحدة وهي "العنف"، مما يحتاج إلى ممارساتٍ كما ذكرنا للرد على ذلك، وهي أفضل بكثير من الأقوال والبيانات – مع عدم إهمالها أيضاً – في توصيل الرد الحقيقي.
وثاني هذه الأسباب أن المجتمع في حد ذاته غير مؤهل الآن للانتقال الفجائي من نظام شمولي، في ظله تَرَبّى وتَعَوَّدَ الكثير من الناس على ممارسة البلطجة ودفع الرشوة والاعتماد على الوساطة والمحسوبية لأخذ الحق، بدلاً من اللجوء للقضاء مثلاً والاحتكام للقانون، إلى نظام جديد يَعِدُهُم باحترام القانون والقضاء على الفساد الإداري – بغض النظر عن كونه إسلامياً أو غير إسلامي – وذلك لأنه – أي المجتمع – وَصَلَ إلى درجة شديدة من اليأس والإحباط، مما يتطلب من رجالات الإصلاح بكافة توجهاتهم – وفي القلب منهم الإخوان المسلمون – العمل وسط المجتمع لإزالة هذا الشعور باليأس، والعمل على خَلْق فكرٍ تربوي جديد من شأنه بث روح الأمل والثقة في نفوس الشعب وبخاصة الأجيال القادمة في الإصلاح والتحول بالدولة إلى دولة الحرية والعدل والمساواة و المؤسسات واحترام الحقوق والقانون والقضاء.
وثالث هذه الأسباب، أن الإخوان يدركون نظراً لكل ما سبق من واقع ملموس، أن المجتمع الحالي يحتاج لإصلاح شديد، إصلاح سياسي واقتصادي واجتماعي، ويجب البداية بالإصلاح السياسي الذي يضمن بيئة حرة نقية تسمح بالتعددية وتضمن عدم استئثار أي تيار بالسلطة، وهم بذلك ينفوا إرادتهم للاستئثار بالسلطة، وهذا الإصلاح لن يتم إلا بتضافر الجهود وتكاتف كل المدارس الفكرية والقوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني – إسلامية وغير إسلامية – على الأقل في مناطق الاتفاق - وهي كثيرة - ويتفق عليها بالفعل معظم أحزاب المعارضة والقوى السياسية. ويظل الخلاف الفكري بين المدارس قائم ووارد في إطار من المناقشة البناءة والحوار الحر.
وإذا أردنا أن نجيب عما أسميته أنا "التساؤلات التفصيلية" مثل قضايا الراقصات والخمور والسياحة...وما إلى ذلك بعد أن نفترض جَدَلاً وصول الإخوان للسلطة، فيجب أن نوضح شيئاً هاماً، وهو أن الإخوان المسلمين لايريدون إحداث مصائب للمجتمع حال توليهم أي سلطة، فهم أهل دعوة لا يعادون المجتمع وهم جزء من هذا المجتمع ولا يعتبرون العاصي مجرماً بل يتمنون له الهداية ويحاولون الأخذ بيده للصلاح. وذلك فضلاً عن أنه خُلُقٌ من أخلاقِ الإسلام والدعاة، فهو شيءٌ منطقيٌ لأي قيادة جديدة تريد استرضاءَ جمهورها - على الرغم من أن ذلك الاسترضاء ليس هو المنطلق الوحيد والرئيسي الذي تتحرك منه الجماعة في تصرفاتها - وبالتالي فإن منهجها سيكون (إصلاح الأحوال) وليس (تدمير الأحوال) حتى وإن كانت مخالفة للشريعة!
وذلك ليس ابتداعاً من الجماعة وإنما هي روح التشريع الإسلامي السَمِح، وتحقيقاً لمبدأ التدرج، فقد تدرّج الشارع الحكيم في تحريم الخمر مثلاً. وبالتالي فإن كل هذه القضايا سيتم الإصلاح فيها جنباً إلى جنب مع الأمور الأساسية، ولكن تأتي بأولوية أقل. ولا ننسى أنه لو تم للإخوان ما يريدون من الالتحام بالمجتمع وتوضيح مبادئ الإسلام الوسطية التي غُيِّبَت وموقف هذا الدين العظيم – حسب فهمهم – من هذه القضايا والحكمة من هذه المواقف، ففي ذلك الوقت سيكون فكر الشعب بما فيه هذه الفئات التي يُسأَل عن كيفية التعامل معها أو إيجاد حل لها – من راقصات وتجار خمر...إلخ – قد تغير إلى حد ما، ورَأَى الصورة الإسلامية المطروحة لإدارة المجتمع، فليس من البعيد أن يقتنع بأن الإسلام سيجد له بديلاً شرعياً يحقق له حياة آمنة مستقرة.
وهناك العديد والعديد من الأفكار لحل هذه الإشكاليات، مثل عمل صندوق مدعّم من الدولة لإقامة مشروعات بديلة لأصحاب الملاهي بأقساط مريحة وبعد فترة تدريب وتأهيل، أو الإبقاء على نشاطهم الفني ولكن مع الترشيد بمنع العري والخمر، ويكون ذلك كله بعد منح مهلة زمنية لتوفيق الأحوال مثلاً، وعلى صاحب النشاط أن يختار ما يحلو له ويناسبه من حلول. ولتقرير ذلك أو غيره، فإن هناك مجلساً تشريعياً يحلم الإخوان بأن يكون مُمَثِّلاً عن الأمة بحق، ومُختاراً بإرادة شعبية حرة يقرر ما يرى فيه المصلحة، ويُجَرِّب وقد يصيب أو يخطأ، ويتعلم من خطأه، وتُرَشِّدُهُ في ذلك معارضةٌ وطنية همها مصلحة الوطن في المقام الأول وقبل كل شيء.
إذن من المؤكد أن الأولويات الآن أصبحت واضحة، فإصلاح النظام السياسي وإطلاق الحريات، و تفعيل منظمات المجتمع المدني، وتقوية ثقافة المجتمع والارتقاء بها من كافة نواحيها والعمل معه والانتشار بقيم الإسلام وفكر الإسلام تطبيقاً لا قولاً فقط، هي الأولويات التي يسعى الإخوان للعمل فيها الآن، ثم تمر السنون، وبعدها قد يتم التفكير في السلطة، والتي قد تكون بأناس على فكر الإخوان – أو قريب منه – وليسوا من الإخوان، أو خليط من هذا وذاك. ولكل حادثٍ حديث.